كلمة رئيس جامعة القديس يوسف الأب البروفسور سليم دكّاش اليسوعيّ
|كلمة رئيس جامعة القديس يوسف الأب البروفسور سليم دكّاش اليسوعيّ
ضمن المؤتمر الدولي المدمج :
” تحديّات التربية على المواطنيّة في العصر الرقميّ في ظلّ الأزمات والعولمة “
الذي نظم من قبل الجمعية اللبنانية للتجديد التربوي والثقافي الخيرية برئاسة السيدة ريما يونس بالشراكة مع كلية التربية في الجامعة اللبنانية والجامعة الإسلامية في لبنان والمعهد اللبناني لإعداد المربِّين في جامعة القديس يوسف وبالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية والسفارة الفرنسية ( قسم التعاون الثقافي ) والمعهد الفرنسي للتربية التقويمية في فرنسا والمجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع وجامعة استانبول ايدين في تركيا – قسم علم الاجتماع وجمعية ديان ومركز تنمية الموارد البشرية للدراسات والأبحاث في برلين والمنتدى العالمي للأديان والإنسانية وجمعية النور للتربية والتعليم وجمعية بلادي والمنتدى العربي لدراسات المرأة والتدريب والأكاديمية المصرية للتربية الخاصة
لبنان – الحدث – مدينة رفيق الحريري الجامعية
كلمة رئيس جامعة القديس يوسف الأب البروفسور سليم دكّاش اليسوعيّ
في هذه الدقائق المعدودات الميسّرة لي في صدر هذا المؤتمر الدوليّ حول التربية على المواطنة، يسرّني أوّلاً أن تكون الجامعة اليسوعيّة شريكة ومشاركة في أعمال المؤتمر، خصوصًا عبر المعهد اللبناني لإعداد المربّين، وثانيًا أن تكون السيّدة الأستاذة ريما يونس هي المشرفة على هذا اللقاء الفكريّ والمحرّضة على انعقاده حول المواطنة والتربية عليها في الزمن الرقميّ والافتراضيّ وكذلك في عصر العولمة التي تستمرّ ماضية في تفاعلاتها، كما رأينا حديثًا ولا نزال نتحقّق من ذلك إبّان الأزمة الجائحة التي هزّت أركان الكائن البشريّ والدول والأوطان ولا تزال، فالتحيّة أوجّهها إلى حضرتك، أستاذة ريما وإلى فريق العمل الذي وضع هذا البرنامج الشيّق للتربية على المواطنة وهذا ما ربّما تعجز عنه الأكاديميّات والجامعات في وضعه خصوصًا في هذه الأيّام الصعبة حيث ينقص الأوكسجين في فضاء بيروت العزيزة بسبب سوء الإدارة السياسيّة للبلاد، فناء المواطن تحت ضغط الفقر والحرمان.
إنّ التربية على المواطنة في أيّامنا هذه هي واجب بقدر ما أنّ المواطنة بحدّ ذاتها والدفاع عنها هما من أساسيّات الدولة الحديثة. صحيح أنّ هنالك مواطنة عالميّة عزّزتها المواطنة الرقميّة التي جعلت من العالم قرية واحدة وقرّبت بين الناس على اختلافاتهم ونسجت بينهم أواصر الصداقة والتواصل، إلاّ أنّ هذه الوسائل الرقميّة شجّعت أيضًا على انفلات الغرائز وردّات الفعل المشينة وعلى تعابير الكراهية والبغضاء والكلام الجارح. مع ذلك نقول إنّ المواطنة المعولمة تجاوزت الحدود المرسومة بين الدول والجنسيّات والبلدان وقادت إلى الفضاء الرحب بمختلف تجليّاته وصوره. إلاّ أنّ الأحلام والرغبات شيء والواقع الحسّيّ المنظور هو شيء آخر. فحلم إقامة الدولة الكونيّة الواحدة المواطنيّة بفضل التواصل الرقميّ هو أمر بعيد المنال أمام صمود الدولة الوطنيّة لا بل الحاجة إليها ضمن الحدود المرسومة لـها.
إلاّ أنّ هذه الدولة الوطنيّة بالذات أصبحت بحاجة أكثر من أي وقت مضى لمفهوم المواطنة كقاعدة دستوريّة قانونية ولسلوك فرديّ وجماعيّ وكبوتقة ثقافيّة حواريّة وكانتماء إلى تجمّع متناغم ورابطة بشريّة، وذلك أمام صعود الانتماءات الضيّقة على أساس الدين والعرق والثقافة، وأمام تزايد قوّة التعدّديّة الدينيّة والمذهبيّة والعصبيّة والعشائر المسهّلة للعنف لا بل المبشّرة به إلى حدّ إعلان الإرهاب على المختلِف، وإرادة الاقتصاص منه وإبادته شخصيًّا أو جماعيًّا.
فالسؤال الذي نوجّهه إلى ذواتنا في هذه الأيّام حيث يهتزّ كلّ شيء، في الكثير من البلدان البعيدة كما القريبة منّا هو التالي : ما هو الجواب على هذه الحالة، أكان ذلك على الصعيد القانونيّ أم السياسيّ أم الثقافيّ العامّ، كذلك على صعيد السلوك الفرديّ والجماعيّ؟ وما هي الصيغة التي من شأنها تدعيم الدولة وتفيد المجتمع وتمكّنه من تجاوز خلافاته، وحتى الإفرازات السيّئة لهذه الاختلافات؟
الجواب على هذا السؤال هو اعتماد المواطنة خيارًا وطريقًا نحو اعتماد نظام سياسيّ يقوم على المساواة أمام الحقوق والواجبات العامّة وممارسة هذه الحقوق والواجبات ممارسة صحيحة عادلة لفائدة الجميع، والمواطنة هي الإطار الاقتصاديّ والثقافيّ الذي من خلاله يستطيع المرء أن يعبّر بحريّة عن رأيه والدفاع عن قضاياه وقضايا شعبه من دون تهديد أو وعيد، فيُنظَر إلى الشخص البشريّ على أنّه عضو كامل الصلاحية في المجتمع السياسيّ والثقافيّ الذي نعيش فيه.
والواقع أنّ هذه الدعوة إلى اعتماد المواطنة سبيلاً إلى العدالة والسلام، إنّما هو نوع من التحدّي الثقيل أمام الدعوات الأصوليّة ضمن خطابها التأويليّ المحدود وأمام المذهبيّة والطائفيّة التي غالبًا ما تتلاعب بـها السياسة والسياسيّون درءًا لمصالحهم. وهذا يبرز دور التربية والمربّي والمدرسة والجامعة والمعهد التقنيّ والمهنيّ، فمن دراستي لأكثر من ستّين شرعة للمدارس في لبنان وجدتُ أنّ ما يناهز السبعين بالمئة منها، أكانت مسيحيّة أم مسلمة أم علمانيّة، إنّما تدعو، نظريًّا على الأقلّ، إلى المواطنة القانونيّة بحسب الدستور اللبنانيّ وإلى التربية عليها فنجد الكثير منها قد ولّد نصوصًا أو برامج أو اعتمد برنامجًا في التنشئة على المواطنة، وهذا أمرٌ جيّد ومن علامات التفاؤل بأنّ جيلاً جديدًا من الشبّان والشابّات سيتدرّبون على هذا المفهوم وعلى هذا السلوك ضمن الحوار والمخاطبة المتبادلة وحسن فضّ النزاعات وإقامة شوائج المحبّة والصداقة بينهم على اختلاف دينهم وطائفتهم ووجهتهم الثقافيّة.
وكلّنا نذكر في هذا المجال كم أنّ الخطاب الدينيّ قد تبدّل في خلال العشرين سنة الفائتة حيث أنّ مقامات روحيّة هامّة مثل سماحة الإمام مهدي شمس الدين والإمام موسى الصدر والإمام محمّد حسن فضل الله قد فاضت أقلامهم بالدعوة إلى استبدال السلوك المذهبيّ المنكفئ على ذاته بالمواطنة كإطار جامع لكلّ اللبنانيين وكلّ المسلمين والمسيحيين. ونذكر أيضًا وثيقة الأزهر التقدّميّة حَول الحريّة والمواطنة في السنة 2017 التي دعت إلى قراءة لدستور المدينة وإلى صياغة ثقافة قانونيّة ومجتمعيّة تُخرِج من مفهوم الأقليّات إلى مفهوم المواطنة، إذ إنّ الأوّل يقود إلى التميّز والانفصال وإعلان الحرب على الآخر في حين أنّ مفهوم المواطنة القائم على الحريّة بأوسع معانيها يقود إلى تأسيس الوطن على رابطة إجتماعيّة تجمع الجميع بالعدل والأخوّة وهذا ما شدّدت عليه وثيقة أبو ظبي حَول “الأخوّة الإنسانيّة” في السنة 2019 وقد وقّعها إمام الأزهر وبابا الفاتيكان، قناعة منهما أنّ هذا هو الطريق إلى إقامة الحكم العادل والدولة الضامنة لشعبها بمختلف أطيافه.
مرّة جديدة نثني على هذه المبادرة التي تمّ الإعداد لـها منذ زمن، متمنّين التوفيق لهذا المؤتمر وللمشرفين عليه بالنجاح. فالتربية على المواطنة هو موضوع رؤيويّ لأنّه يهمّ مستقبل الناس شيبًا وشبان في مختلف البلدان وخصوصًا شعبنا اللبنانيّ الذي يعاني من الحرمان والفراغ السياسيّ والتخبّط على مستوى الوطن فيخبو الانتماء ويهاجر الناس متحسّرين على وضع وطنهم راجين له القيامة والقوّة والسيادة والثقة وتجديد الذات.