كلمة رئيس المركز التربوي للبحوث والإنماء الأستاذ جورج نهرا ممثلاً بالدكتورة بلانش أبي عساف
|كلمة رئيس المركز التربوي للبحوث والإنماء الأستاذ جورج نهرا ممثلاً بالدكتورة بلانش أبي عساف
ضمن المؤتمر الدولي المدمج :
” تحديّات التربية على المواطنيّة في العصر الرقميّ في ظلّ الأزمات والعولمة “
الذي نظم من قبل الجمعية اللبنانية للتجديد التربوي والثقافي الخيرية برئاسة السيدة ريما يونس بالشراكة مع كلية التربية في الجامعة اللبنانية والجامعة الإسلامية في لبنان والمعهد اللبناني لإعداد المربِّين في جامعة القديس يوسف وبالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية والسفارة الفرنسية ( قسم التعاون الثقافي ) والمعهد الفرنسي للتربية التقويمية في فرنسا والمجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع وجامعة استانبول ايدين في تركيا – قسم علم الاجتماع وجمعية ديان ومركز تنمية الموارد البشرية للدراسات والأبحاث في برلين والمنتدى العالمي للأديان والإنسانية وجمعية النور للتربية والتعليم وجمعية بلادي والمنتدى العربي لدراسات المرأة والتدريب والأكاديمية المصرية للتربية الخاصة
لبنان – الحدث – مدينة رفيق الحريري الجامعية
كلمة رئيس المركز التربوي للبحوث والإنماء الأستاذ جورج نهرا ممثلاً بالدكتورة بلانش أبي عساف :
جانبُ منظمي المؤتمرِ الدوليِّ المُدمجِ حولَ تحدياتِ التربيةِ على المواطنيّةِ في العصرِ الرقميّ في ظلِّ الأزماتِ والعولمةِ
أيُّها الحفلُ الكريمُ،
معْ ما أصابَ المجتمعاتِ عمومًا مِنْ تطوُّرٍ وما أظهرتْهُ مِن تقدّمٍ، بدَتِ الحاجةُ ماسةً إلى تعديلِ الدورِ الذي تقومُ بهِ التربيةُ وتطويرِهِ، بحيثُ تتمكَّنُ هذهِ الأخيرةُ مِنَ الاضطلاعِ بالدورِ المَنوطِ بِها في تظهيرِ التغييرِ، وفي التأثيرِ في حركةِ المجتمعِ، وبخاصةٍ أنّ التربيةَ تأتي في طليعةِ النظُمِ الاجتماعيَّةِ لجهةِ الفاعليَّةِ والتأثيرِ في الأنظمةِ الأخرى من ثقافيَّةٍ واقتصاديَّةٍ وما إليها…
ولقدِ اتّسمتْ عمليةُ التغييرِ في التربيةِ الحديثةِ بميزاتٍ عديدةٍ، منها سرعةُ هذا التغييرِ، وغزارتُهُ وكثافتُهُ، حتى لكادتِ القدرةُ على التغييرِ المستمرِّ والابتكارِ تصبحُ مِنْ أبرزِ خصائصِ التربيةِ الحديثةِ. والتغييرُ مضافًا إلى ما يحدُثُ في العالمِ مِنْ تعديلٍ في أوضاعِ البيئةِ والتربيةِ والاقتصادِ، والذي قدْ يبدأُ فكرةً ما تلبثُ أنْ تصبحَ قانوناً سرعانَ ما يفرِضُ سلطانَهُ على الجميعِ بحيثُ يصبح اتِّباعُهُ ملزمًا، يطرحُ إشكاليَّةً تتمحورُ حولَ العلاقةِ الوثيقةِ بينَ التربيةِ والعولمةِ والتعليمِ، وبين العولمةِ والتغييرِ. فلِلْعولمةِ منطلقُها الخاصُّ، وهي تفرِضُ أنْ يقومَ كلُّ بلدٍ مِنَ البلدانِ بالسعيِ لإيجادِ موضِعِهِ في الصورةِ الجديدةِ التي تشكَّلَتْ للكونِ بعد ما باتَ يُعرفُ بالعولمة….
لذلكَ، ستبقى التربيةُ في العالمِ الذي نعيشُ فيهِ في الوقت الراهنِ كما في العالمِ المقبِلِ يصورةٍ ومقدراتٍ هائلةٍ على أجنحةِ السرعةِ، مِنْ أهمّ العواملِ التي تلعبُ دورًا مصيريًّا في عملياتِ التغييرِ الاجتماعيِّ والتنميةِ الشاملةِ. كما إنّها ستبقى إحدى الأدواتِ الرئيسةِ التي يُستندُ إليها في تمتينِ البناءِ الثقافيِّ ونقلِ الحضارةِ والمحافظةِ عليها، والركيزةَ الأمتنَ في الدفعِ باتجاهِ التحوّلاتِ الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ والسياسيّةِ، في مجتمعاتِها مِنْ جهةٍ، ولمواجهةِ التحديّاتِ الناشئةِ عنِ العولمةِ من جهةٍ ثاتيةٍ…
ولئنْ يكنْ مِنْ مهامِ التربيةِ نقلُ القِيمِ والتراثِ مِنْ جيلٍ إلى جيلٍ، وهذا أمرٌ متَّفقٌ عليهِ، فإنَّ مِنْ أبرز ما تضطلِعُ بِهِ تنشئةُ الإنسانِ المواطنِ، أيْ تعريفُ الإنسانِ بالمواطنيّةِ التي هي في صُلْبِ حياتِهِ وسْطَ جماعةٍ ينتمي إليْها، أوْ ينتمي معَها إلى أرضٍ وتاريخٍ، وتجمَعُهُ بِها تطلُّعاتٌ وآمالٌ مشترَكَةٌ. وليستِ المواطنيّةُ التي عنها نتحدثُ في هذا المجالِ مجرَّدَ توافقٍ اجتماعيٍّ وقانونيٍّ، بلْ هيَ منظومةُ قيمٍ اجتماعيَّةٍ وأخلاقيّةٍ، وممارسةٌ سلوكيّةٌ نابِعةٌ مِنَ الوعيِ الاجتماعيّ والسيّاسيّ والثقافيّ والحضاريّ للمجتمع، وهيَ مفهومٌ يتشكلُّ مِنْ أبعادٍ عدةٍ، أوَّلُها بُعدُ الانتماءِ إلى الوطنِ بمكوناتِهِ الثلاثةِ: الأرضُ والشعبُ والمؤسساتُ، الذي يُبنى على تمثّلِ الفردِ الهويّةَ الاجتماعيّةَ الوطنيّةَ ويترجَمُ على المستوى العملانيِّ مِنْ خلالِ الجانبينِ الوجدانيِّ والولائيِّ، وثانيها البعدُ الحقوقيُّ، حيثُ تعني المواطنيّةُ انطلاقًا مِنْ هذا البُعدِ التزامًا متبادَلًا بينَ المواطنِ والدولةِ، تسعى الدولة بِموجبِهِ إلى تأمينِ المساواةِ بينَ المواطنينَ دونَ تفرقةٍ أو تمييزٍ بينهم، وإلى إشراكِهم في الحُكمِ، وضمانِ حقوقِهِمِ المدنيَّةِ والسياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة مقابلَ ما تفرِضُهُ عليهِم مِن واجباتٍ، كالمشاركةِ السياسيّةِ عبرَ الاقتراعِ، واحترامِ القانونِ والالتزامِ بِهِ، والدفاعِ عنِ الوطنِ وعدمِ خيانتِهِ، ومُساءلةِ السلطةِ ودفعِ الضرائبِ. أما ثالثُ الأبعادِ فهو البعدُ الاجتماعيُّ، ونعني به مسؤوليّةَ المواطنِ الاجتماعيّةَ، مسؤوليتَهُ تجاهَ وأمامَ المجتمعِ، تحدِّدُها أعرافُهُ وتقاليدُهُ واحتياجاتُهُ، وتكونُ هذِهِ المسؤوليةُ في جانبٍ مِنْها إلزاميّةً تفرِضُها الدولةُ على المواطنينَ كالضرائبِ وخدمةِ العلمِ والالتزامِ بالقوانين، ومسؤوليّاتٍ اختياريّةً يقومُ بِها المواطنونَ طواعيَةً، وتشمَلُ السعيَ لتطويرِ الحياةِ الثقافيّةِ والسياسيّةِ والاجتماعيّةِ والفكريَّةِ. ويعلو منسوبُ المسؤوليةِ الاجتماعيَّةِ لدى الفردِ/ المواطنِ بشكلٍ مطَّردٍ معْ وعيِهِ الجماعةَ التي إليها ينتمي، ووعيِه القيمةَ الاجتماعيَّةَ لأفعالِهِ ولمشاركتِهِ الآخرينَ وتطوُّرِ مفهومِ المبادرةِ والعملِ النتطوعيِّ لَديْهِ خدمةً للجماعةٍ وحرصًا على سلامتِها وديمومتِها وارتقائِها الاجتماعيِّ. وترتكزُ المسؤوليةُ الاجتماعيَّةُ هذِهِ على قيمٍ أخلاقيَّةٍ وانسانيَّةٍ ساميةٍ ليسَ أوَّلَها الالتزامُ ولا آخرَها الأخُوَّةُ الإنسانيَّةُ. أما البعدُ الأخلاقيُّ للمواطنيَّةِ فينطلقُ مِنَ التجرُّدِ مِنَ المصالحِ الشخصيَّةِ للارتقاءِ نحوَ السعيِ لتحقيقِ مصلحةِ الجماعةِ، ويرتكزُ إلى قيمِ النزاهةِ والشفافيةِ وتطابقِ القولِ والفعلِ. أما البعدُ الأخيرُ المستجدُّ لمفهومِ المواطنيّةِ فَهْوَ البعدُ الإنسانيُّ العالميُّ الذي يتجاوزُ الانغراسَ في الذاتِ القوميّةِ وحصرَ المواطنيّةِ بالمعنى الضيّقِ لها أيْ بالحدودِ الجغرافيّةِ للدولةِ، لينفتحَ على العالمِ دونَ أنْ يتنازلَ عن هويّتِهِ الخاصّةِ المشبعةِ بفلسفةِ المجتمعِ الذي إليهِ ينتمي، كما بالعناصرِ الثقافيّةِ المميّزةِ لهذه الثقافةِ، ولا عن البعدِ الحقوقيِّ بما يضمنُهُ مِن حقوقٍ أو يرتِّبُهُ مِنْ واجباتٍ.
بمعنى آخرَ، يعبِّر البعدُ الإنسانيُّ العالميُّ عنْ شعورِ الفردِ “بالانتماءِ إلى المجتمعِ الأوسعِ والإنسانيّةِ المشتركةِ”، فالمواطَنَةُ العالميّةُ وِفقًا لمنظّمِة الأممِ المتّحدةِ للتربيةِ والعلومِ والثقافةِ (اليونسكو) هيَ إطارٌ نفسُ- اجتماعيٌّ للعملِ الجماعيِّ، يولّدُ حراكًا مدنيًّا مشتركًا بينَ الشعوبِ والثقافاتِ مِنْ أجلِ عالمٍ أفضلَ، فهوَ يعبّرُ عَنْ شعورٍ بالانتماءِ للإنسانيّةِ مِنْ دونِ التخلّي عَنِ الانتماءِ الوطنيِّ والقوميِّ.
وباعتبارِ التربيةِ أداةً أساسيّةً إما لنقلِ التراثِ الثقافيِّ مِنْ جيلٍ إلى جيلٍ أوْ لتعزيزِ الانتماءِ إلى الإنسانيَّةِ مع ما يعنيهِ هذا مِنْ طغيانِ مفاهيمِ العولمةِ، فإنَّها تواجهُ تحدّياتِ هذهِ العولمةِ التي تسعى إلى فرضِ قيمِها وأفكارِها ومشاريعِها على الصغارِ قبلَ الكبارِ.
أما أبرزُ هذهِ التحدّياتِ فيُمكِنُ رصدُها في الجوانبِ الآتيةِ:
- ما تنتظرُهُ البشريةُ مِنَ القرنِ الحادي والعشرينَ في ما يخُصُّ تطلّعاتِ هذا القرنِ في مجالِ التربيةِ؛ إذْ يُفترضُ أنْ تتجلى أنصعُ مخرجاتِها في بناءِ الإنسانِ الحرِّ، الواعي، المثقفِ، المؤمنِ بذاتِهِ ووطنِهِ وإنسانيتِه، المتعلّمِ، الناضجِ، المسؤولِ عنْ خياراتِهِ وقراراتِهِ، المتمكِّنِ، المبادِرِ والمعطاءِ، المُنفتحِ دونَ ارتهانٍ، والمنتمي دونِ انغلاقٍ، السائرِ قدمًا نحوَ هدفٍ واضحٍ، المشارِكِ والمسؤولِ، الواضعِ خبراتِهِ في خدمةِ مجتمعِهِ، ثمَّ توسعًا نحو وطنِهِ فمحيطِهِ فالعالمِ…
- الإقرارُ بأنَّ العصرَ الحاليَّ حملَ الكثيرَ في مجالاتِ التكنولوجيا والرقميّةِ، لكنَّهُ ما زالَ قاصرًا عنْ بناءِ ثقافةٍ إنسانيَّةٍ عالميَّةٍ جامعةٍ، تحظى برضى العقلاءِ والحكماءِ إلى أيِّ محيطٍ انتمَوا، يعامَل بموجبِها الجميعُ على قدمِ المساواةِ استنادًا إلى انتمائِهِمْ إلى الجنسِ البشريِّ، وبغضِّ النظرِ عنْ أيِّ فروقاتٍ عرقيَّةٍ ودينيَّةٍ واجتماعيَّةٍ واقتصاديَّةٍ تفصلُ بينَهم، ما أدى حتى الساعةِ إلى خللٍ على مستوى النتائجِ المتوخاةِ.
- تحدياتُ الانفتاحِ وطبيعةُ المعاييرِ التي تتحكَّمُ بهِ، ونعني بذلك: أيُّ انفتاحٍ نريدُ على العالمِ، وأيُّ مستوىً من العملِ المشتركِ والتنسيقِ بين مَنْ يريدونَ العملَ سويًّا، وهلْ سيكونُ العملُ معًا مدفوعًا بالسعيِ لتحقيقِ ما يدخلُ في صالحِ الإنسانيّةِ جمعاء أم أنَّ مصالحَ “الكبارِ” ستبقى فوقَ كلِّ اعتبارٍ وخارجَ كلِّ مساسٍ بها؟ وهل سيتعلّمُ العالمُ منْ أخطاءِ الماضي وما نتجَ عنْها مِنْ مآسٍ ومنْ جروحٍ لما تندملْ بعدُ، أنْ يقرأَ في كتابِ تاريخٍ واحدٍ عنوانُهُ “الإنسانيةُ السعيدةُ”؟
- تحدياتٌ تتعلّقُ بالإدارةِ التربويّةِ التعليميَّةِ، إذْ سيكونُ لزامًا على المؤسساتِ التعليميَّةِ أنْ توفِّرَ لمرتاديها البيئةَ المناسبَةَ التي يلتقي فيها المضمونُ التعليميُّ الجيِّدُ والثقافةُ الأصيلةُ، المرتبطةُ بالأصولِ والجذورِ إنما التواقةُ إلى الانفتاحِ بدونِ تهوُّرٍ ولا تبعيَّةٍ، يعملُ فيها مربّونَ متمرّسونَ، همُّهُمُ إذكاءُ الشعورِ بالفخرِ لدى المتعلمين، ومشاعر العزة والانتماء لا يشوبها غرور أو شوفينية، مؤسساتٌ مبادرةٌ تقدرُ الابداعَ والاستقلاليَّةَ مِنْ خلالِ الإبداعِ وتحفيزِ التطوّرِ الذاتيِّ والعملِ الجماعيِّ في آنٍ.
- تحدياتٌ ذاتُ صلةٍ بدورِ الأسرةِ ومدى إسهامِها في نجاحِ العمليّةِ التربويَّةِ. فالسؤالُ الذي يطرحُ نفسَهُ اليومَ وبِإلحاحٍ هو: “كيفَ تربي الأسرةُ المحليّةُ ولدًا مُعولمًا، وُلِدَ محاطًا بتحدياتٍ تتجاوزُ قدرةَ ذويهِ على التعاطي معَها أو لجمِ اندفاعِها، وبمتغيراتٍ مُذهلةٍ لجهةِ سرعتِها ونتائِجِها وآثارِها عليهِ وعلى صيرورتِهِ وصيرورةِ محيطِهِ ووطنِهِ وفكرِهِ ووجودِهِ؟؟؟
أيها المشاركونَ الكرامُ،
إنَّ مسؤوليةَ كلِّ الفاعلينَ في الشأنِ التربويِّ جمَّةٌ، والمطلوبُ منّا جميعًا أنْ نعملَ بجدٍّ على إيجادِ السبلِ والآلياتِ التي تنشىء مواطنًا لا يساومُ على ولائِهِ لوطنه، لا وجودَ في وجدانِهِ لكيانٍ قبلَ وطنِهِ، يملكُ مِنَ الوعي لهويَّتِهِ الوطنيَّةِ ما يجعلُهُ يُعلي كرامةَ وطنِهِ على كلِّ ما عداه، ومِنَ الوعيِ لهويَّتِهِ الإنسانيَّةِ ما يجعلُهُ بمستوى الخروجِ من دائرةِ الكيانِ الضيِّقِ إلى رحاب الإنسانيَّةِ الشاملةِ…
إنه التحدي الكبيرُ أمامَ مناهجِنا التعليميَةِ والجامعيَّةِ/ أمامَ مدارسِنا ومعاهدِنا وكلّياتنا وجامعاتِنا، معلِّمينا وتربويينا وأُسرِنا، باختصارٍ أمامَ كلِّ مَنْ لَهُ يدٌ في بناءِ الإنسانِ، فإمّا أنْ يأتيَ البنيانُ رفيعًا، مَجيدًا، متألّقًا، مُبهرًا، وإما أنْ نشكِّلَ كائناتٍ معارِفُها ممسوخةٌ وأفكارُها ممجوجةٌ وإراداتُها مسلوبةٌ… فلنقمْ بدورنا ولنكنْ على قدرِ التحدّي.
عِشتُمْ وعاشَ إنسانُنا واعيًا حرًّا منفتحًا ومسؤولًا.
عِشتُمْ وعاشتِ التربيةُ فاعلةً، منتِجةً، وناجِحَةً في مهامِها…