*بقلم رولا جميل حطيط
يعدّ الفضاء الافتراضيّ أهمّ إنجازات ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي شهدها العالم، فتطوّر (الإنترنت)، وانتشار التقنيات الحديثة للاتصال، وتزايد تطبيقاتها في مجال الإعلام والاتصال، أسهمت في ظهور نوع جديد من الإعلام، وهو »الإعلام الإلكترونيّ« الذي يعدّ ظاهرة إعلاميّة جديدة تتميّز بسرعة الانتشار، والقدرة على الوصول إلى أكبر عدد من الجمهور، وبأقصر وقت ممكن، وأقلّ تكلفة
ولقد أدّى تطوّر المواقع وتنوّعها وشموليّتها إلى تنامي اعتماد الأفراد على الإنترنت في كلّ مجالات الحياة، خاصّة في مجال التواصل الاجتماعيّ، حيث تعدّدت استخداماته: من تصفح البريد الإلكترونيّ، إلى المنتـديات وغـرف الدردشة، والرسائل النصيّة والفـوريّة، والمدوّنات، إلى درجة غدت المواقع الاجتماعيّة مصطلحًا معروفًا أطلق على مجموعة المواقع الإلكترونيّة التي ظهرت مع الجيل الثاني للويب، وأتاحت التواصل مع مجتمع افتراضيّ، وأشهرها: Face Book – MySpace – Twitter – Xing –Instagram – وغيرها
وسائل التواصل الاجتماعيّ هذه من المفترض أن تكون أدوات لمعادلة الحياة الواقعيّة، يتشارك الفرد عبرها الأخبار والآراء مع الأصدقاء والغُرباء على حدّ سواء، وأيضًا الاحتفال بالإنجازات، أو إعلان المواقف المؤيّدة والمخالفة لقضيّة ما والمناقشة فيها، وغيرها مما يتمّ تداوله في الواقع عادة، حتى أنّها أتاحت هذه الفرص لمن صودر حقّه في التعبير واقعًا، فأصبحت هذه الوسائل بالفعل الصوت العالي والمنبر المتاح للجميع من دون استثناء
لا نُناقش هنا سلبيّات وسائل التواصل الاجتماعيّ أو إيجابيّاتها، وإنّما نحاول أن نرصدَ بعض المشاهد التي غَدت علامةً نهتدي بها إلى بعض العقد النفسيّة والاجتماعيّة التي بدأت تسبّب المتاعب إنْ للشخص المتفاعل والمتابع أو لمحيطه الاجتماعيّ ومنها
أضحى شعار »أنت تراني إذن أنا موجود« الطابع الطاغي على وسائل التواصل الاجتماعيّ، والمجتمع اللبنانيّ يعاني، كما المجتمعات الأخرى، مشكلة »حبّ الظهور« والاهتمام بالأمور الكماليّة التي تعكس المستوى الماديّ الذي يعيشه الفرد، وهذه القيم هي من القيم الاستهلاكيّة الجديدة التي بدأت تتفاقم وتنتشر وباتت من سمات مجتمعنا، والتي يُسهم في إظهارها حبّ التقليد والبعد عن الواقع والحقيقة من خلال التسلّح بهذه المظاهر، وتّعدّ بحسب الكثير من الأخصائيّين النفسيّين والاجتماعيّين نوعًا من أنواع التغطية على فشل معيّن في الحياة، حيث ينطبق عليها المثل القائل: »كلّ ما زاد عن الحدّ انقلب للضد
لقد أدّت مواقع التواصل الاجتماعيّ إلى انتشار »حبّ الظهور« من خلال نشر صور الخصوصيّة للأفراد والتباهي بها، وما عزّز هذه الظاهرة أكثر الشعارات والوسوم (الهاشتاغات) المتنوّعة
وكان للتجميل نصيبه من هذه العبارات والهاشتاغات تزامنًا مع نشر صور »سيلفي« تُظهر ضحكة هوليوود الشهيرة والرائجة في عالم الموضة، وبين الصبايا وهاشتاغ # أجمل ضحكة#
وعلى أيّ حال، فإنّ من الآثار التي لا يلتفتن إليها في هذا الإطار حجم كسر الخواطر الذي يحصل نتيجة هذه السلوكيّات، وذلك من خلال المبالغة في نشر صور الأبناء والأطفال عمدًا أمام من لا يُرزق بأطفال، أو صور وعبارات تُظهر مبالغة في العواطف والعلاقات الأسريّة، خلال نزهات ورحلات ترفيهيّة لأفخر الأماكن، واقتناء الملابس الباهظة، وإبراز الجواهر وأدوات الزينة للتباهي بطريقة مبالغ بها، أمام من يعجز عن الإتيان بهذه الأمور بسبب عدم توفر الإمكانات الماديّة وحتى المعنوية لها، ما يُسبب في أحيان كثيرة الوقوع في فخّ الردود الانفعاليّة والكيديّة، من قبل المتأمّل المقصود، يعبّر عنها بهاشتاغات وعبارات
نجد الكثير من النساء ممن أدمنّ التباهي بحميميّة الحياة الزوجيّة وعرضها على صفحات التواصل الاجتماعيّ بطريقة المناكفات اللطيفة، والغزل المحبّب، والتعليقات، والحوارات المفتوحة للجميع، فتظهر الحياة بسعادة زائدة لا همّ فيها؛ ما يؤدّي بالطرف الآخر المتأمّل إلى حالة من التذمّر الداخليّ من واقعه المعاش، حيث الزوج الكتوم الذي لا يفصح عن مشاعره خارج دائرة المنزل بل يبقيها حبيسة الجدران. ويظهر ذلك من خلال ما تنشره النساء على صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ، كأن تعمل share لمنشور الغزل الذي كتبه زوجها لها وذلك لتعميمه على الملأ
العاطفة الافتراضيّة
أحدثت العلاقات العاطفيّة الافتراضيّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ جدلًا بارزًا بين أوساط المختصّين الاجتماعيّين والنفسيّين جرّاء الآثار السلبيّة التي تتركها في الأفراد الذين يقعون في مصيدة هذه العلاقات، والتي تؤدّي إلى ابتزازات رخيصة وردود أفعال عنيفة. فكثير هم الذين استوطنوا في هواتفهم، ورأوا أنّ نوافذ الدردشة هي بوابات العبور للحصول على شريك أو شريكة المستقبل، فانتشرت العلاقات العاطفيّة التي أنتجتها الدردشات الافتراضيّة، والتي غالبًا لا تنتهي باستقرار أو أرتباط؛ بل تؤول إلى صدمات عنيفة تلحق بالأنثى تحديدًا، بسبب اكتشاف الخداع من الطرف الآخر الافتراضي، ويترجم ذلك عادة بنشر منشور يفيض همًّا وحزنًا وكآبة
ما قُدِّمَ ليس رصدًا لجميع مشكلات وسائل التواصل الاجتماعيّ كما ذكرنَا في البداية، وإنما هو محاولةٌ لتسليطِ الضّوء على تجليّات بعض السلوكيّات التي تحتاج منّا إلى الوقوف أمامها مليًّا، ويغدو الإشكال الأكبرُ في إعادة البرزخ بين الواقعيّ والافتراضيّ والتّوازن الذي يجب أن يعيشه الإنسان في علاقته مع نفسه ومع الآخرين، ورفضِ الغرقِ في أوهام الافتراض، والاهتمام بالشّعور الإنسانيّ، وعدم تغليب الأنا وسعادتها وإشباع رغباتها على ما قد يسبّب جرحًا وحرجًا للمتابعين والمتفاعلين، والحذر من الوقوع في شباك الوَهم خلف شاشات الهواتف الذكيّة، ومحاولة إحياء اللّحظة والحياة فيها وتوثيقها من دون قتلها، حتى لا تضحي وسائل التواصل الاجتماعيّ رصاصة الرحمة في قلب مجتمعتنا
دكتوراه في العلوم الاجتماعية / مدربة في التنمية البشرية*