ما هي فرصُ بناءِ المواطنيّةِ والدولةِ الحديثةِ في ظلِّ الطائفيَّة؟
|ما هي فرصُ بناءِ المواطنيّةِ والدولةِ الحديثةِ في ظلِّ الطائفيَّة؟
اعداد الأب البروفسير صلاح أبوجوده اليسوعيّ
- نائب رئيس جامعة القديس يوسف
- أستاذ جامعي ومدير معهد الأداب الشرقية في جامعة القديس يوسف
مداخلة ضمن المؤتمر الدولي المدمج :
” تحديّات التربية على المواطنيّة في العصر الرقميّ في ظلّ الأزمات والعولمة “
الذي نظم من قبل الجمعية اللبنانية للتجديد التربوي والثقافي الخيرية برئاسة السيدة ريما يونس بالشراكة مع كلية التربية في الجامعة اللبنانية والجامعة الإسلامية في لبنان والمعهد اللبناني لإعداد المربِّين في جامعة القديس يوسف وبالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية والسفارة الفرنسية ( قسم التعاون الثقافي ) والمعهد الفرنسي للتربية التقويمية في فرنسا والمجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع وجامعة استانبول ايدين في تركيا – قسم علم الاجتماع وجمعية ديان ومركز تنمية الموارد البشرية للدراسات والأبحاث في برلين والمنتدى العالمي للأديان والإنسانية وجمعية النور للتربية والتعليم وجمعية بلادي والمنتدى العربي لدراسات المرأة والتدريب والأكاديمية المصرية للتربية الخاصة
لبنان – الحدث – مدينة رفيق الحريري الجامعية
مداخلة الأب البروفسير صلاح أبوجوده اليسوعيّ
ما هي فرصُ بناءِ المواطنيّةِ والدولةِ الحديثةِ في ظلِّ الطائفيَّة؟
أيُّها الحفلُ الكريم،
أودُّ بدايةً أن أشكرَ منظّمي هذا المؤتمر، وأخصُّ بالذكرِ السيّدة ريما يونس، على دعوتِهِم إيايَ للمشاركة، وأشكرَ لكم حضورَكُم.
يتّضحُ من تاريخِ دولةِ لبنان أنّ مساعيَ البحثِ عن حلولٍ للأزماتِ السياسيّةِ والوطنيّةِ المتكرِّرة تجري حصريًّا ضمن التريباتِ الطائفيّةِ كما يُعبِّر عنها الميثاقُ الوطنيّ، في وقتٍ يبدو فيه أنَّ الطائفيَّةَ نفسَها عائقٌ في وجهِ قيامِ دولةٍ حديثةٍ وبناءِ مواطنيَّةٍ بمعنى الكلمةِ المعاصر. وفي الواقع، فطنَ واضعو دستورِ ما قبلَ الطائفِ وبعدَه إلى سلبيَّةِ الطائفيَّة. لذا، اعتبروا أنّها ترتيبٌ مؤقَّت[1]. ولكنّ إلغاءَها يبدو صعبًا جدًّا، إذ إنَّها تتفاقمُ في البلادِ ولا سيَّما على المستوى السياسيّ. وعندما يُطرح موضوعُ إلغائِها من حينٍ إلى حينٍ تِبعًا لما ينصُّ عليه الدستور، فإنَّ ذلك يحصلُ كمناورةٍ ليس إلاّ، بهدفِ تسجيلِ نقاطٍ في مرمَى الخصوم. وربّما نجدُ مَن يدافعُ عن التركيبةِ الطائفيّةِ ويدعو إلى تبنّيها بصورةٍ نهائيّة، وعدمِ إهمالِ إيجابيَّاتِها، وأوَّلُها تقديمُ لبنان بصفتِهِ أرضَ تلاقٍ بين الأديان. فإن كانت أحوالُ البلادِ مأسويَّة، فهذا لا يعودُ إلى الطائفيَّةِ بحدِّ ذاتها، بل إلى الصراعاتِ على السلطة والفسادِ وغيابِ قواعدِ العملِ السياسيّ السليم عن العديدِ من الممسكين بصنعِ القراراتِ المحليّة، فضلاً، بالطبع، عن العواملِ الخارجيّةِ التي تؤثِّر سلبًا في استقرارِ البلادِ وحُسنِ سيرِ نظامِها.
أمَّا الافتراضُ الذي سأطرحُهُ فهو التالي: ما دامتِ الطائفيّةُ أمرًا واقعًا، فإنّه من غيرِ الممكنِ في ظلِّها العبورُ إلى المواطنيّةِ والدولةِ الحديثة. وفي الوقتِ عينه، لا بدَّ للتغييرِ من أن يكون تدريجيًّا، ويمرَّ من خلالِ النظامِ القائمِ نفسِه، ولعلَّ في هذا تكمنُ الصعوبةُ وحراجةُ المسألة. سأحاولُ توضيحَ هذا الافتراض من خلالِ أربعةِ نقاط:
أوَّلاً- حدودُ تطبيقِ الديموقراطيّةِ التوافقيّةِ في لبنان
يُدرَجُ نموذجُ الحكم اللبنانيّ في العلومِ السياسيّةِ ضمنَ ما يُسمَّى أنظمةٌ ديموقراطيّة توافقيّة. وثمّة توافقٌ بين الباحثين على تحديد أربعةِ مبادئ تضمن حُسن تطبيق هذا النظام الديموقراطيّ التوافقيّ: أولاً، تعاونُ قادة مختلف مكوّنات المجتمع للحكم من خلال ائتلافٍ أو تكتّلٍ كبير. وثانيًا، إمكانُ اللجوء إلى حقّ النقض (الفيتو) من قبل أعضاء التكتّل، حتّى الأقليّات فيه، من دون أن يعني ذلك شلَّ آليّة الحكم. فالكلمة الأخيرة هي لتفاهم التكتّلات الكبيرة. وثالثًا، التمثيلُ النسبيُّ الذي يضمن مشاركةَ الجميع في المؤسّسات التنفيذيّة. ورابعًا، الاستقلالُ الذاتيّ الذي يمكن أن يتّخذ شكلَ اللّامركزيّة الإداريّة أو الفيدراليّة على أنواعها. فهذه الخصائصُ مجتمعةً تضمن، في المجتمعات المتعدّدة لُغَويًّا أو عرقيًّا أو دينيًّا، عمل نظام الحكم على أساس التفاهم المستمر[2].
ولكن، في الوقت عينه، تبرزُ نقاطُ ضعفِ هذه الخصائص. فاتّخاذُ القرارات قد يكون بطيئًا جدًّا في بعض الأحيان، والمبادراتُ الفرديّة في المجتمع المدنيّ تبقى قليلةَ التأثير، كما أنّ سعيَ اللّاعبين الكبار للتوصّلِ إلى تفاهمٍ في ما بينهم قد يؤديّ إلى تهميش رأي الأقليّات. ومهما يكن من أمر، فإنّ الدراسات المعاصرة تبيّن، بمفارقةٍ لافتة، أنّ نظامَ الديموقراطيّة التوافقيّة نجحَ أو يسجّلُ نجاحًا في المجتمعات التي تتوصّل إلى تجاوزه، أي التي تنتقلُ تدريجًا إلى الديموقراطيّة الليبراليّة العدديّة. بمعنى أنَّ الديموقراطيّة التوافقيّة لا تُعتَمد بصفتها نظامًا نهائيًّا، بل مرحليًّا. فهذه هي الحال، على سبيل المثال، في النمسا وهولندا. فالتطوّر المنسجم ولو البطيء للديمقراطيّة التوافقيّة يجب أن يؤدّي إلى تحريرِ المواطنِ الفرد من هيمنةِ المجموعة، وإلى تخفيفِ التوتّر الذي يسودُ مكوّناتِ المجتمع المختلفة ثقافيًّا أو دينيًّا أو عرقيًّا، كونه ينمّي مفهوم الخير العامّ والشعورَ بالولاءِ إلى الوطنِ الواحد، ويفسحُ في المجال، تاليًا، لقيامِ دولةِ القانون والمؤسسات. لذا، فنجاحُ الديموقراطيّة التوافقيّة يفترضُ أن تحرصَ قياداتُ المجتمع الرئيسيّة، لا على التوصّل لتفاهماتٍ أو تسوياتٍ بشأن مسائلَ خلافيّةٍ فحسب، بل على اعتمادِ خَطواتٍ عمليّةٍ أيضًا تنقلُ المجتمعَ من حالةِ العيش معًا كأمرٍ واقعٍ، إلى العيش معًا في ظلِّ المواطنيّة التي تفترض الانتقالَ من الانتماء الجمعويّ إلى الانتماء الوطنيّ؛ أو الانتقالِ من مرجعيَّةِ الفردِ الجمعويّة إلى مرجعيَّة الدولة الوحيدة للفرد وقد أصبح مواطنًا.
في ضوء ما تقدَّم، يمكن القول إنّ لبنان قد عرفَ بأشكالٍ مختلفة المبادىء الأربعةَ المذكورة، منذ إعلانِ دولةِ لبنان الكبير، وصولاً إلى ميثاق 1943 واتّفاقِ الطائف[3]. ولكن، ويا للأسف، لا تسيرُ الأمورُ باتّجاهِ العبورِ من الديموقراطيّةِ التوافقيّةِ إلى الديموقراطيّة الليبراليّة، بل تسيرُ نحو الأسوأ، إذ يزدادُ استثمارُ الطائفيّةِ في الصراعِ السياسيّ، ويزدادُ تدهورُ مؤسّساتِ الدولة. وممّا لا شكَّ فيه أنَّ المسؤوليّةَ تقعُ على عاتقِ الممسكين بالقرارِ المحليّ الذين لا يعملون على تطويرِ رؤيةٍ وطنيّةٍ لاطائفيّةٍ، يمكن على أساسِها رسمَ طريقِ تطويرِ النظامِ تدريجيًّا بالتزامُنِ مع تحريرِ الفردِ من سَطوةِ الجماعة.
وفي هذا السياق، تأتي مسألةُ علاقةِ لبنان بالخارج لتفاقمَ التعقيدَ الداخليّ. ولطالما كان هذا العاملُ سببَ أزماتٍ شديدةٍ داخليّة، نظرًا إلى ارتباطه بالسعي إلى تأمينِ حيادٍ هو بالنتيجةِ إشكاليٌّ بسببِ الميثاقِ الوطنيّ عينه. فإنّ الحيادَ الميثاقيّ يتحقّقُ بفضلِ سلطةٍ وسطيّةٍ تتكوّنُ إمَّا من أصحابِ “النوايا الحسنة” الذين يلاقون قبولَ كلِّ الأطرافِ الأساسيّة، أو من مرجعيّاتٍ طائفيّةٍ رئيسيّةٍ تضمنُ التوازنَ في الحكم، وتنجحُ في إيجادِ صيغةٍ تُخفِّف من شدّةِ وقعِ تأثيراتِ تطوّراتِ الخارجِ السلبيّة في الداخل، وتوفِّرُ توافقَ الحدِّ الأدنى لإبقاءِ صيغةِ العيش معًا على قيدِ الحياة، من خلالِ ترويجِ شعارِ “اللّاغالب واللّامغلوب”. فتبقى الأسبابُ التي أدَّت إلى الأزمةِ حيَّةً وقابلةً للاشتعالِ عندَ أوّلِ ظرفٍ ملائم. وليس من مخرجٍ سحريٍّ لهذا المأزقِ الكيانيّ؛ فالمخرجُ يبدأُ في إرساءِ أسسِ قضيّةٍ مشتركةٍ صلبةٍ توحّدُ اللبنانيّين بمعزلٍ عن الميثاقيّةِ الطائفيّة، توضعُ لها معالمُ ثقافيّةٌ واضحة، وتؤدّي إلى تكوينِ سياسةٍ تقومُ على خدمةِ الخيرِ العامّ والمصلحةِ الوطنيّة. وممّا لاشكَّ فيه أنّ عناصرَ الثقافةِ الديموقراطيّةِ وحقوقَ الإنسان هي التي يمكن أن تجمعَ اللبنانيِّين على أسسٍ غير طائفيَّة، ويمكن إبرازَها من خلالِ التطرِّق إلى الواقعِ اللبنانيّ الطائفيّ نفسِه. وفي هذا الإطار، أتناولُ النقطةَ الثانيةَ بعنوان:
ثانيًا- مسألةُ تحريرِ الفردِ اللبنانيّ
تكمنُ نقطةُ انطلاقِ ثقافةٍ وطنيّةٍ جديدةٍ في الاعترافِ بوجود الفردِ بصرفِ النظر عن انتمائه المفروض عليه بالوراثة. ولا شكَّ في أنَّ مثلَ هذا الاعترافِ يعني تمهيدَ الطريقِ للقاءٍ حقيقيّ بين مواطنين يعيشون بحسبِ ذاتيّتِهم، لا تبعًا للأحكامِ السابقةِ التي يرثونها عن بعضِهم بعضًا، وتُعمَّمُ عمدًا أو على نحوٍ غير واعٍ، وبوجهٍ خاصٍّ في زمنِ الأزمات، وتؤثّرُ في علاقاتِ المجموعاتِ المتنافسةِ بعضِها ببعض، وتولّدُ ما سماه جورج قُرم “ثقافةَ الاختلاف” التي تقومُ على التشاؤمِ المطلق والعقدِ النفسيّة، والتي تفترضُ مقاييسُها الأساسيّةُ أنَّ جميعَ الأشخاصِ المنتمين إلى جماعةٍ معيّنةٍ يتحلَّون بالصفاتِ نفسها، وهي صفاتٌ أبديّةٌ لا تتغير. [4]
ومن المؤكّد أنّ النزعةَ إلى التشخصيّة، أي الاعتراف بالشخصِ بصرفِ النظر عن انتمائه الطائفيّ، حيَّةٌ في لبنان، وتقومُ على الانفتاح الثقافيّ والتربيةِ الحديثةِ والعولمة – مجموعةُ عناصرَ تجعلُ بتزايدٍ أن يميلَ العديدُ من الشبّان والشابات للعودةِ إلى ضميرهم الفرديّ باستقلاليّةٍ عن تأثيرِ الانتماءِ الطائفيّ، لاتّخاذِ خياراتهم المتّصلةِ بحياتهم الشخصيّة. إضافةً إلى ذلك، جرت أبحاثٌ كثيرةٌ في العقودِ الماضيةِ بيَّنت التطوّرَ السريعَ الذي عرفته التشخصيّةُ في لبنان، بتأثيرِ عواملَ اقتصاديةٍ واجتماعيّةٍ مختلفة، ومن أهمِّها الهجرةُ إلى المدن، وبوجهٍ خاصّ بيروت، وتنامي اقتصادُ السوق على حساب اقتصادِ الريف، ودورُ النقاباتِ المتنامي ومنظّماتِ المجتمعِ المدنيّ اللاطائفيّة. وفي الاتّجاه عينه، أُثيرَ الكلامُ في أكثرِ من مناسبةٍ على ضرورةِ إعادةِ العمل لإقرارِ قانون الزواج المدنيّ، وقانونِ الأحوالِ الشخصيّة الاختياريّ، وخلقِ فسحةٍ قانونيّة حياديّةٍ تحمي حقوقَ الأفراد، وتؤسّسُ لثقافةٍ سياسيّةٍ جديدة. وبالرغم من أنّ تطوّرَ الأمورِ العامّة لا يذهب باتّجاه تقوية هذه التوجّهات الإيجابيّة، فإنّها تبقى فاعلةً في أوساطٍ كثيرة، ويمكن بالتالي البناءُ عليها.
ثالثًا- الذهنيّةُ اللبنانيّة المتناقضة
من التناقضات التي تظهر غالبًا في مواقفِ اللبنانيّين إدانتُهم الطائفيّةَ إذ يرون فيها سببَ بؤسِهم ومصائبَ وطنهم، وتحصُّنُهم بها، لأنّهم لا يجدونَ بديلاً عنها.
إنَّ التنبّهَ إلى الذهنيّةِ المتناقضة ضروريٌّ، ذلك أنّه يُبقي الأملَ حيًّا للخروجِ من الحالةِ الطائفيّة، إذ يعزِّزُ من مكانةِ العناصرِ اللّاطائفيَّةِ في حياةِ اللبنانيّ، ويفسحُ في المجالِ لتطويرِ مشاريعَ وطنيّة. في حين أنَّ الترويجَ لإيجابيّةِ التركيبةِ الطائفيّةِ وكأنَّها تركيبةٌ نهائيّةٌ للبنان، يرسّخُ نهائيًّا مجتمعًا يقومُ على توازي جماعاتٍ أشبهَ بدويلاتٍ تُنافسُ بعضُها بعضًا وتعادي بعضُها بعضًا، فضلاً عن تفاقمِ النزاعاتِ داخلَ نخبِ المجموعةِ الواحدة بغيةَ احتكارِ التمثيل.
نسمعُ أحيانًا مَن يحاولُ أن يروجَ للطائفيةِ بإيجابيةٍ من طريقِ تشبيهها بالأحزابِ السياسيةِ في الغرب أو تعدديةِ بعضِ المجتمعات الغربية. فكما أنَّ المشهدَ السياسي في أوروبا، على سبيل المثال، تشغلُه الأحزابُ السياسية، تشغلُ الطوائفُ المشهدَ اللبناني. وكما أنَّ المجتمعَ الكندي، مثلاً، يتكوّنُ من مجموعاتٍ ثقافيةٍ وعرقيةٍ كثيرةٍ ومتنوعة، فكذلك المجتمعُ اللبناني يتكوّنُ من طوائفَ متنوعة.
غير أنَّه لا يمكن مقارنةَ التركيبةِ الطائفيَّةِ اللبنانيَّةِ وعملَها بالتركيبةِ السياسيَّةِ الحزبيَّةِ الغربيَّةِ وعملها، ولا بتركيبةِ المجتمعاتِ الغربيَّةِ التعدديَّة. ذلك أنَّ مسألةَ التعدديةِ وما تفترضُه من حقوقِ الجماعات أو الأقلياتِ تُطرح في الغرب ضمنَ إطارِ نظامٍ ديموقراطيٍّ ليبراليٍّ يقومُ على المواطنيَّةِ والعلمانيَّةِ وسيادةِ القانون، وترسُّخِ ثقافةِ حقوقِ الإنسان، كما أنَّ تنافسَ الأحزابِ يقومُ على رؤيةٍ معينةٍ للخيرِ العامِّ والمصلحةِ الوطنيَّة، وليس انطلاقًا من حسابات فئويَّةٍ أو نزعةٍ ضمنيَّةٍ مزمنةٍ إلى إلغاء الآخر، كما هي الحالُ في التركيبةِ الطائفيةِ التي تمنعُ نشأةَ المواطنيَّةِ بسبب إخضاعِ الفردِ للطائفيّة.
رابعًا- مأزقُ الأديانِ في ظلِّ النظامِ الطائفيّ
عندما يجري الكلامُ على “الطائفةِ” أو “الطائفيَّة” في لبنان، يُشملُ الدِّينُ تلقائيًّا في اللفظتَين من دونِ تمييز. إذ يبدو أنَّ الطائفةَ بصفتها جماعةً دينيّةً ثقافيّةً سياسيّةً محدودة، تحدّدُ وضعَ الدِّين ودورَه، فيفقدُ الدِّينُ، بالتالي، بعدَه الإنسانيّ الشموليّ ليصبحَ متحيّزًا. فبدلَ أنْ يكونَ الدِّينُ حاملاً رسالةً روحيَّةً وأخلاقيَّةً تسمو بالإنسانِ وتعزّزُ حرّيّتَه المسؤولة، وتنمي قدرتَه على فعلِ الخير وحبِّ الحقيقةِ والعدالةِ بتجرّد وموضوعيَّة، يصبحُ مرتبطًا بواقعٍ طائفيٍّ يولّدُ الخوفَ والتبعيَّةَ والريبَةَ من الآخرين. بل تُوظّفُ الرموزُ الدينيّة نفسُها والطقوسُ والمنابرُ الدينيَّةُ أحيانًا كثيرةً في سبيلِ تعبئةِ الشعورِ الطائفيّ. وعوضَ أن يدخلَ الدِّينُ في حالةِ شدٍّ حيويّةٍ بين إطارهِ الجغرافيّ والثقافيّ والعالمِ الخارجيّ، بحيثُ يسعى إلى ترجمةِ رسالتِهِ الأساسيَّةِ من خلالِ التفاعلِ ومحاورةِ الثقافاتِ والأديان الأخرى بطريقةٍ خلّاقة، يبقى أسيرَ الحالةِ الطائفيَّةِ الضيّقة.
وبكلامٍ آخر، أصبح الدِّينُ مماثلاً للشعاراتِ الطائفيّةِ ومطالبِها السياسيَّة، وتوظيفُه يُضفي أحيانًا صفةً مقدّسةً على النزاعاتِ السياسيَّةِ الطائفيَّة. فيمكنُ النُخبَ السياسيَّةَ استخدامَ خطابها التعبويّ الطائفيّ بغطاءٍ دينيّ لتَشُدَّ عصبَ الطائفةِ الذي يذكّي السلوكَ الانفعاليّ والغرائزيّ وغيرِ المنطقيّ. وفي المحصّلة، تكونُ الطائفيّةُ قد همّشتْ دورَ الدِّين الحقيقيّ، بل حرَفته عن مسارِه وشوّهته.
إنَّ تحرّرَ الدِّين من الطائفيَّةِ حاجةٌ ماسَّةٌ بقدر حاجةِ تحرُّرِ الفردِ منها. وممّا لا شكَّ فيه أنَّ انفتاحَ الفكرِ الدينيِّ على العلمانيَّةِ بموضوعيَّةٍ وجديَّةٍ يمثِّلُ فرصةً لنهضةِ الإنسانِ في لبنان ونهضةِ الدِّين نفسه؛ العلمانيَّةَ بصفتِها حيادَ الدولةِ الإيجابيّ تجاه خياراتِ الفردِ الدينيَّة، وتجاهَ شؤونِ الأديان.
خلاصة
لا يمكن التوصّلُ إلى قيامِ دولةٍ ديموقراطيّةٍ حديثة تقومُ على المواطن بصفته فردًا يُعطي ولاءه لدولته، ويعودُ إلى قناعاتهِ الشخصيَّةِ للتقريرِ في الشؤونِ العامَّة، في ظلِّ الطائفيّة. لذا، فإنَّ اعتبارَ هذه الحالة بمثابةِ أمرٍ واقعٍ لا خلاصَ منه، سيُبقى أحوالَ البلادِ في وضعٍ هشٍّ يقومُ على توازناتٍ دقيقةٍ قد تتغيّرُ عند تغيِّر العواملِ الداخليّةِ أو الخارجيّةِ التي لها تأثيرٌ داخليّ. فما دامت الطائفيَّةُ، لا يمكن لبنانَ أن يستمرَّ إلاّ في ظلِّ حكمٍ وسطيٍّ يؤمِّنُ الحدَّ الأدنى المطلوب من الاستقرار.
أمَّا المخرجُ الوحيدُ من هذا المأزق، فيتألَّف من شقَّين متكاملين: أوَّلاً، الترويجُ للثقافةِ الديموقراطيّةِ التي تفترضُ انعتاقَ المواطن من كلِّ مرجعيّةٍ جمعويّةٍ تُملي عليه مواقفَه، وتحريرُ الدِّينِ من قبضةِ الاستثمارِ الطائفيّ، وإبرازُ حقيقةَ أنَّ الطائفيّةَ لا يمكن أن تؤسِّس دولةً حديثةً تليقُ بالإنسانِ المعاصر – جملةَ أمورٍ يمكن المؤسَّساتِ التربويّةَ والثقافيّةَ أن تطوِّرها وتعملَ على نشرها. والثاني، تطويرُ حُكمٍ وسطيٍّ إيجابيّ، أي حُكمٍ لا يكتفي بالحفاظِ على التوازنات، بل يضعُ خطّةً وِفقًا لقواعدِ الديموقراطيّة التوافقيّة، تؤدّي تدريجيًّا إلى العبورِ إلى الدولةِ الديموقراطيّةِ الحديثة. وشكرًا لحسن إصغائكم.
[1] المادّة 95: “على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة ببن المسلمين والمسیحیین اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السیاسیة وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سیاسیة وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.”
[2] HANF Theodor, 1986, « From Empire to neighborhood : Identity conflicts and the making of modern States », in : HANF Theodor, MESSARRA Antoine et REINSTROM Hinrich (dir.), 1986, La société de concordance. Approche comparative, Beyrouth : Publication de l’Université libanaise, pp. 5-29 ; MESSARRA Antoine, 1997, Le Pacte libanais, le message d’universalité et ses contraintes, Beyrouth.
[3] وحتى المبدأ الرابع، فقد طُبِق دومًا من خلال قوانين الانتخاب ونظام الأحوال الشخصيّة والتعليم والصحّة وغير ذلك.
[4]CORM Georges, 1992, Liban : les guerres de l’Europe et de l’Orient 1840-1992, Paris : Gallimard.