….عندما أوجعها رحيله
|مقال وجداني للدكتورة رابعة يكن
حين حضر الموت إلى أقرب الناس إليها ( والدها) ، تبدّلت خريطة حياتها إذ هزّها الموت والفقد بشكل كبير . فخلال أيام وشهور تشابهت عندها الأزمنة ، فكأنها منذ أن رحل هيىئ لها أنها لم تكن تره منذ أمد طويل . حين رحل ، رحل السند والسدّ المنيع أمام محن الزمان ، فتولدت عندها مشاعر اليتم ، إذ لم تستوعب حواسها للوهلة الأولى أن كلمة (بابا ) قد طواها الثرى ، وأنها عاجزة عن رؤيته وسماع نبرته العالية متى أرادت ، فتحولت آنذاك إلى طفلة رغم نضوج عقلها ، وباتت تنتظر من يشرح لها ما يحدث ، ولماذا ( أباها )؟ .حين فقدته ، أصبحت كمن تاهت في صحراء جدباء ، أضاعت قائدها ومرشدها . حين رحل عنها رأت من حولها وجوهاً جديدة . اكتشفت عالماً كان أوله قاسياً ! بدأ إحساس الوحدة ينمو في داخلها فمضت تبحث عن طمأنينة قلبها ، فلم تجدها سوى في دعاء صادق ، بأن يرزق الله سبحانه وتعالى ( أباها ) الفردوس الأعلى . استفاقت بعد فترة من غفوة الضعف والخوف من الأيام القادمات وتوكلت على الله . وأيقنت أن الحزن لا يجدي نفعاً ، وأن موعد الرحيل لا بد آت ، حتى لمن استوطن القلب والفؤاد ، لكنها على يقين أنه لا رحيل لمن غرس وزرع ، فرحيله يكون رحيل جسد ، أما الأفكار والآثار لا يطويها الموت أبداً .
نقطــــــــة التحــــــوّل ..
كانت الخطوة الأهم على الاطلاق بعدما تمكنت من لملة جراحها ، هي اتخاذها القرار بالمُضى نحو هدف جديد ينسجم مع امكانياتها وقدراتها ، فقررت أن تزيل النقاب عن كل ما كتبه والدها من مؤلفات كانت تنجذب لروعتها ، لمقاسها الصغير ، لألوانها وصور غلافها المتناغمة مع عنوان الكتاب ، فهي لم تقرأها سابقاً .. مع أن عناوينها التي تفرّد والدها ببعضها تجعل من يراها يرغب في تصفحّها . اعترفت أنها أهملت قراءة كتبه ، رغم تعلقها الشديد بشخصيته الصارمة والحانية في آن معاً . فهي لن تنس حجم الفرح الذي كان ينتابها حين كان يأخذ بقلمه الأزرق من جيب بذلته الرسمية أو دشداشته التي كان يهوى ارتداءها ، فيبدأ بتدوين إهدائه الجميل بخط متمايل صغير على كل إصدار جديد ، فيهديها عبارات ممزوجة بالمحبة والمشاعر ، فتسارع لطبع قبلة على يديه بلهفة عارمة ، وتهرب بالكتاب فتضعه على أرفف مكتبتها الصغيرة . وحين تزايد عدد مؤلفاته خصّصت زاوية أكبر لها ، وكانت بين الفينة والأخرى تقرأ بضع صفحات من بعضها ، والبعض الآخر لم تفتحه على الإطلاق ، بل بقي طيّ الانتظار ، إلى أن جاء اليوم الموعود فكانت نقطة تحوّل وانطلاقة من وجع الرحيل ، ما جعلها تلجأ بشوق ولهفة لأن تحضن ثروة فكرية تركها ، وتغوص في بحرها . بدأت رحلتها مع القراءة وخصّصت لذلك صومعة في المنزل ، وكل كتاب تكرّر قراءته أكثر من مرة . في المرة الأولى كانت عندها كالصعب الممتنع ، لكن تكرار القراءة حوّلها إلى سهل ممتنع ، المعروف بالمتميز الصعب ، الذي يصل إلى عقل القارئ بانسيابية ، رغم أنه قد يكون صعب التنفيذ .
شــــــغف القـــــــــــراءة ..
تحوّلت قراءة مؤلفاته إلى ممارسة يومية غاية في التشويق الذي يحتاجه قلبها وعقلها ، فتستحضر الماضي بمحطاته المتنوعة . أصبحت شغوفة باكتشاف زاويا من شخصية (والدها ) التي كانت تجهلها ، فلم تكن تعلم كل خباياه وهمومه ، لأنه لم يكن يفصح بكل شيء . فكم ذرفت دمعاً وهي تقرأ وتتابع لأنها كانت تستشف أن من وراء كل فكرة مدوّنة ، صرخة وحرقة وأحياناً جرس إنذار ، حاول كتمه ولجمه بأسلوب تعبيريّ موضوعي . وكم سرّ قلبها حين وجدت في الكتب حلولاً طرحت لكل أزمة ، حيث كان يفرد لها حيزاً لا بأس به يضع فيه وصفات وقائية علاجية ، كطبيب يكتب روشتة دواء ليس لفرد فقط ، بل لمجتمع مأزوم يحتاج إلى وقاية واستنهاض . فأيقنت أن أفكاره لا شك ستكون محبوبة ومطلوبة عند قارئيي كتبه ، لأنه شخصية محبوبة ومصدّقة لدى الناس .كم راودتها بعض الأسئلة : لماذا لم تقرأ مؤلفاته حين كان أمام ناظريها ليتسنى لها المناقشة حولها ؟ ولماذ لم يسألها يوماً إن كانت قد قرأت كتبه ؟ من هنا تولّد عندها شعور بالتقصير تجاهه ، ما جعلها تتعامل مع مؤلفاته بأدبٍ رفيع ، مثلماً كانت تتعامل معه بأدبيات الإنصات خلال توجيهه الحديث إليها . كانت تتخيّله أمامها وهي تقراً فتستمر حتى لو أرهقتها القراءة . فكيف لها أن تبدأ بأحد مؤلفاته ثم تتضّجر بعد عدة صفحات ، فكانت تلزم نفسها بالقراءة حتى منتصف الليل دون أن تبالي بالوقت، لرغبتها بمعرفة ماذا يريد أن يخبر به ، عبر هذه السلسلة من مؤلفات فكرية وسياسية وتربوية واجتماعية وثقافية ، بذل فيها جهد يستحق المتابعة حتى النهاية . فأيقنت بعد انتهاء قراءة جميع مؤلفاته أن الأمر يستحق دراسة معمّقة ، ليتحول هذا الشغف إلى دراسة علمية حول ( والدها ) ، الذي بلغت كتبه الأربعين. ” إنه الألم “الذي يكون في أحيان كثيرة سبباً لتحقيق هدف جديد .