…. علّ الضمائر تصحو
|كتبت د. رولا حطيط
يعيش الإنسان اليوم في عصر تحكمه النوازع النفسيّة، ويسيطر فيه القويّ على الضعيف، عالم غدت لغة المادة والهيمنة مبرّرة ودليلًا على التقدّم. عالم يغرّد بالحرية، والسلم، والأمان، وينادي بحقوق الإنسان، ويعدّ الديمقراطيّة مرجعًا رصينًا؛ ما يوقع الإنسان في حيرة نتيجة ما يمارسه من سلوكيّات، وتصرّفات، في المجتمعات اليوم، ومدى ارتباطها بطبيعته وسجيّته، وأصالته الخيّرة، أوالـشريرة، فيترجمها جدلًا، وحوارًا مع النفس ومع الغير حول الواقع المعاش. 

فما يحدث على وجه البسيطة من قتل، ودمار، وجـرائم، وفـساد، وظلـم، وطمع، تتناولها الفضائيّات، ووسائل الاتصال الأخرى، تجعل الإنسان في دوامة فكر، وقلق مما يـسمع، ويشاهد، ويحس، فنجده ينسجم مع كلّ خير، ويكتئب من كلّ شر، ويتشاءم من كلّ مكروه.
ومنذ بدء وعي الإنسان بالنضوج بدأ يدرك أنّ بداخله شيئين أو طبيعتين، أحيانًا تكون طبيعة هو يحبّها وأحيانًا تكون طبيعة يمقتها، ولكنّه من الداخل لا يريد أن يخالفها. فطبيعة النفس البشريّة تحمل في طيّاتها استعدادًا فطريًّا لتقبّل الأمرين «الخير والشر»، وهي قابلة للتوجيه والتنمية نحو أيّ منهما، فهما ليسا متأصّلين فيها، بل إنّها تميل لهذا أو ذاك بالتوجيه والتربية، وبتأثير من البيئة التي يعيش فيها الفرد وهذا هو دور الأخلاق والاستعداد الفطريّ.
ولقد مثّل موضوع الطبيعة الإنسانيّة، أي ﺍﻷﺼل ﺍﻟﺫﻱ ﺨﻠﻕ عليه ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ خيرًا كان أم ﺸﺭًّﺍ، أو علاقة الإنسان بالخير والشرّ، مسألة مركزيّة وفلسفيّة شغلت البشر على مرّ العصور وأفضت إلى إشـكاليّات كثيرة، وعولجت عند الديانات المختلفة والفلاسفة والمفكّرين، وذلك لتداخل آرائهـم وتباينها وفقـًا لمعتقـداتهم واتجاهاتهم، ولطالما قُصّت قصص كثيرة في بلاد مختلفة حول العالم تحكي عن بداية معرفة الإنسان الخيرَ والشرَّ ، وبناءً على ذلك يبرز التساؤل الآتي: ما أصل الطبيعة الإنسانيّة؟ 

تعدّدت الآراء والاتجاهات عند المفكّرين والفلاسـفة والعلمـاء، فمنهم من رأى أنّ الطبيعة الإنسانيّة واحدة في جميع الأزمنة، والعصور، وأنّ الإنـسان هـو الإنسان حيثما وجد، فهو «إمّا مجبول على الخير، وإمّا مجبول على الشرّ، فالإنسان ذات عاقلة و له إرادة واسعة في التمييز بين الأفعال” .

ومنهم من رأى أنّ اختلاف الناس في طبائعهم يعود إلى الأفراد أنفسهم من حيث «الاستعدادات، والقـدرات والميول» . وثمّة من نظر إلى الخصائص التي تشكّل في مجموعها هذا الكائن المتميّـز الـذي نسمّيه الإنسان أو تركيبه فطبيعته الجسديّة تجعله يميل إلى الحيوانيّة التي تمهّـد لاقتـراف الشرّ، وإشباع الشهوات ، أي أنّ الإنسان لا يملك إرادة حرّة، وبهذا لا يمكنه أن يكون شيئًا من تلقاء ذاته، وإنّما الشروط الماديّة هي التي تجعله على ما هو عليه أيًّا كان، وبالتالي لا يمكن أن يكون ثمّة إنسان بالمعنى الأخلاقيّ للكلمة. هناك فقط إنسان بالمعنى الوصفي، كما يعتقد بعضهم أنّ الله «عزّ وجل» هو الفاعل الوحيد ولا يمكن أن يكون الإنسان خالق أفعاله، إلى جانبهم نجد دوركايم الذي يعتقد أنّ الحريّة وهم شعوريّ وأنّ كلّ تصرّفات الإنسان تخضع لقوانين المجتمع وقيمه ومؤسّساته .


ونجد أنّ الخير والشر هما سبب كلّ شيء يدور من أفعال في هذا العالم؛ لأنّ أيّ فعل بشريّ له دافع إمّا خير وإمّا شر، ومن فعل لفعل يوجد الكثير من الأفعال اليوميّة التي يتصارع فيها الخير والشر، وأحيانًا يكون الأذى وحتى الموت ثمرة هذا الصراع، فالخير والشرّ طبيعتان محيّرتان، كما الدوافع والغرائز، فالغريزة تختلف عن الدافع تمامًا؛ لأنّها تخصّ غالبًا الحاجات الأوليّة الجسديّة للإنسان والحيوان، أمّا الدافع فهو يخصّ الشقّ النفسيّ والجسديّ معًا للإنسان، فعلاقة الدوافع والغرائز بالخير والشرّ علاقة سببيّة، ولمّا كانت الدوافع تخصّ الشقّ النفسيّ لدى الإنسان كان الخير والشرّ غالبًا أفعالًا تحدث بدوافع معيّنة؛ بمعنى أنّ الانسان يعطي الفقراء نقودًا لأنّ ثمّة دافعًا داخله يقول له افعل هذا، إذًا من أين أتى الشرّ؟ الدافع الأساسيّ للشرّ هو نفسيّة الإنسان المشوّهة نتيجة المجتمع والتربية والبيئة والطبيعة الحيوانيّة التي ما زالت تسكنه، ولأنّ نفسيّة الإنسان غير مستقرة ومتقلبة إذًا بالتبعيّة تكون الدوافع متقلّبة. يحدث أن يكون ثمّة شذوذ في الدوافع وهذا الشذوذ هو الشرّ، ولذلك عندما يريد أن يسيطر الإنسان على نفسه، يسيطر على دوافعه ويكبح أهواءه وجشعه ويختبر نفسه ليستطيع في الأخير اكتشاف العطب النفسيّ لديه، وهذا مرتبط بالضمير الذي يعبّر عن الوعي أو الوجدان الداخليّ بحيث يميّز بين الخطأ والصواب، ما يساعد على احتواء الشرّ البشريّ، والاهتمام بآلام الناس ومعاملتهم بإنصاف، والابتعاد عن الظلم ونشر العدل. 

ﻓﺈﻥّ ﺍﻟﻨﻔﺱ ﺍﻹﻨﺴﺎﻨﻴّﺔ ﺍﻟﺨﻴّﺭﺓ ﻻ ﺘﺭﻀﻰ ﻤﻥ ﺍﻷﺸﻴﺎﺀ ﺇﻻّ ﺃﻓﻀﻠﻬﺎ ﻭﺃﻋﻼﻫﺎ، ولكلّ إنسان مسؤوليّة تجاه أفعاله، وهذا ما يبرّر الثواب والعقاب الدنيويّ كما الآخرويّ في الديانات السماويّة والقوانين الإنسانيّة. فالإنسان الذي مات ضميره لا يعيش محبّة الناس ولا يحترم إنسانيّتهم، ولا يتحسّس مسؤوليّته فهو يعيش إنسانيّة مادیّة جوفاء، فهذا العالم يصنعه الإنسان، فلنسعَ إلى إيقاظ ضمائرنا لكي نضيء ونتوّهج وننفتح على الآخر، حتى نشعر بأنّ إنسانيّتنا تنتج، تتحرّك، تتغيّر؛ لتغيّر الواقع نحو الأفضل.