بين الواقع والخيال
|كتبت الدكتورة رولا حطيط
يزخر واقع الإنسان الذي يعيشه ضمن بيئة أسريّة ومجتمعيّة بأمنيات وأهداف يرسمها وهو طفل أو شاب وقد تتمحور حياته كلّها أحيانًا حولها، فيسهر ويشقى للوصول إليها، ويعاني ويصبر ويتجلّد، وفي نهاية الأمر وإن تحقّق بعضها يظلّ بعضها الآخر أمنيات يرنو بنظره إليها في عالم غير الواقع الذي يعيشه.
ولأنّ الإنسان مخلوق يتأثّر ويؤثّر فإنّه يبني آماله وأحلامه وأمنياته من الظروف التي تحيط به أو يعيشها، ليسدّ نقصًا أو عجزًا أو حرمانًا ما عاناه في واقعه؛ إمّا من عدم توفّر مصدر إشباع احتياجاته العاطفيّة والغرائزيّة، أو التفكّك الأسريّ وإحساسه بالغربة بين أفراد أسرته، أو الكبت العاطفي وخوفه من إظهار ما بداخله من غضب الأسرة وانتقادها إيّاه، وأيضًا سوء أحوال الأسرة الاقتصاديّة والمعيشيّة، وفشله في مجال ما وخجله من نظرة الآخرين إليه التي تشعره بعدم الثقة، أو إجبار الأسرة الفردَ على قناعات لا يؤمن بها، وكذلك اليأس وفقدان الأمل من تغيّر الواقع… وغيرها الكثير، فيدخل عالم الخيال من أوسع أبوابه، حيث يحقّق فيه ما عجز عن تحقيقه أو فشل فيه واقعًا.
لربما كان الخيال نعمة يسعد بها الإنسان لحظات؛ ليعيش أمنياته في قالب بعيد عن الواقع والحقيقة ذي أثر مؤقّت، فنجده يطوّر تلك الأمنية إلى صراعات يكون فيها هو المنتصر دائمًا، ويصنع في عالمه العقبات والمشكلات والصراعات ويتجاوزها بكلّ سهولة، كلّ ما يتمنّاه الإنسان يناله بكلّ سهولة في ذلك الإبحار الخياليّ، هو هروب إلى عالم يتحكّم هو به.
فهل هذا الهروب يعني الجُبن والخوف؟ أم أنّه الرغبة في الوصول إلى عالم اكثر طمأنينة من عالمنا؟
إنّ هذا الهروب من الواقع حالة من عدم الرضا عن الأخير، تبقى مخزّنة في عقل الفرد الباطن، ترافقه في جميع مراحل حياته ونموّه، وطالما أنّه ما زال غير راضٍ عن واقعه، فيظلّ تحت تأثيرها، ويحاول دائمًا التخلّص منها أو إظهار عكسها في تواصله مع الآخرين بتصوير صورة عن حياته عكس الحقيقيّة، وخاصّه مرحلة الطفولة، وربما تكون حاله طارئة نظرًا إلى ظروف معيّنة يمرّ بها الفرد وتنتهي بنهايتها.
فما الذي يا ترى يقوده إلى الهروب وعدم محاولة تحقيق تلك الأمنية على أرض الواقع؟
يظنّ الإنسان أنّ الهروب هو السبيل للتخفيف من الضغوط والمشاكل العاطفيّة والأسريّة والماديّة ونسيان ذكريات مؤلمة، أو الهروب من الفشل الذي يلاحقه نتيجة غياب الملامح والخطوط العريضة لمسارات حياته، حيث من الصعب عليه أن يعيش ضحيّة للقهر والعجز النفسيّ؛ لأنّهما يسبّبان حالة من عدم الاتزان، فيصل إلى حلّ؛ ألا وهو التوجّه نحو السراب، إذا لم تتوافر له حلول غيره، فهذا يعطيه وهْم السيطرة على ما هو خارج نطاق احتماله، ومقدرته، ويصل بذلك إلى شيء من التوازن الوجودي فيعتاد الهروب من الواقع المؤلم.
ولكنّ لكلّ إنسان أسلوبه الخاص في التعامل مع حياته الشخصية؛ وتختلف أساليب الهروب من إنسان إلى آخر؛ فنجد من يهرب إلى النوم فتراتٍ طويلةً، أو من يلجأ إلى التأجيل المستمرّ في القرارات المهمّة، وهناك من يهرب إلى التدخين، أو تعاطي المخدرات، أوالعزلة، أو الشره في الأكل، ونجد أيضاً من يسعى إلى تغيير من حوله، أو إلى السوشيال ميديا، أو الكذب، أو الخيال، أو إدمان المواقع الإباحيّة،… إلخ.
ويبقى السؤال هل الهروب هو السبيل الأنجع؟ يرى الكثيرون هذا الهروب عجزًا، و ضعفًا، ويدعون إلى مواجهة الفشل واقعًا وعدم الهروب منه، أو إنكاره، ومواجهة الأخطاء والاعتراف بها؛ لأنّ الواقع هو واقع، رضي الإنسان أم أبى، هو واقع، اعترف أم أنكر، هو واقع يعيشه ويلقي بظلاله عليه، ولكن يبقى أن يقال إنّ هذا الواقع يصبح طوع يدي الإنسان إذا ما عرف كيف يتكيّف معه ويتقبّله، وينتصر على صعوباته.